نظم المعهد الوطني العالي للموسيقى - الكونسرفتوار، وبدعوة من رئيسته المؤلفة الموسيقية هبة القواس أمسية سمفونيّة أحيتها الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية اللبنانية بقيادة عازف البيانو والموسيقي اللبناني - الأردني - البريطاني كريم سعيد، ومشاركة "الكونسرت ماستر" إيهاب جمال، في الكنيسة الأرمنية الإنجيلية الأولى في بيروت، بحضور وزير الثقافة الدكتور غسان سلامة ونائب رئيس مجلس الوزراء الدكتور طارق متري وسفيري مصر وأستراليا والرئيس فؤاد السنيورة وشخصيات سياسية ودبلوماسية وفكرية وإعلامية.
في ليلة موسيقية استثنائية، اجتمع فيها إبداع الماضي والحاضر، أدّت الأوركسترا العمل الموسيقي للوتريات”Aspiration”" للمؤلفة الموسيقية هبة القواس مع الكونشرتو الأول والثالث للبيانو والأوركسترا للودفيغ فان بيتهوفن، حيث قُدّمت، ولأول مرة في لبنان، رائعتَا بيتهوفن، العملان الموسيقيان الكبيران في عرض واحد وفي أمسية فريدة أبهرت الجمهور بمزيجها الفريد من الحداثة والكلاسيكية.
حشد كبير من جمهور الموسيقى الكلاسيكية حضر الأمسية، التي افتتحت بمقطوعة القواس” “Aspiration، وقادت الجمهور في رحلة موسيقية تأملية تتخطى الحدود التقليدية للسيمفونية، إذ امتزجت روح الشرق مع الأوركسترا الغربية في تفاعل متناغم يعكس فلسفة الصعود والارتقاء، الصمت والبوح، والقوة والسكون. تجلت في العمل روح البحث عن التلاقي مع المطلق الذي يظهر في المساحات المتباعدة حيناً والمتقاربة أحياناً أخرى، وفي انجذاب القواس إلى تلك القوة المطلقة في موسيقى تنشدها، عبر مقاطع موسيقية تتدرج من التأمل العميق إلى التفجّر العاطفي في جذوة موسيقية تحبس الأنفاس، مقدمة تجربة صوتية تحمل بصمة القواس الفريدة الباحثة عن السمو الموسيقي. بصمة مهرت أعمالها منذ البدايات، ولاسيما أن مقطوعة "أسبيرايشن" هي من أوائل أعمالها الموسيقية، كما شرحت عنها بعد سؤال من قائد الأوركسترا كريم سعيد.
بعد هذه التجربة الحديثة، عاد الجمهور إلى عبقرية بيتهوفن الكلاسيكية، حيث أدت الأوركسترا الكونشرتو الأول بروحه المتوهجة، التي انعكست على القائد والعازفين، فبرع المايسترو سعيد بإيصال الطاقة المتدفقة في المعزوفة، ولمحات من روح بيتهوفن الابتكارية المبكرة، حيث أبدع في تقديم حوارات موسيقية نابضة بالحياة بين البيانو والأوركسترا، بينما جاءت الجمل اللحنية مفعمة بالحيوية والتألق.
أما الكونشرتو الثالث، فكان تتويجًا للأداء، إذ حمل في طياته عمقًا دراماتيكيًا وأحاسيس متوهجة تعكس شخصية بيتهوفن الأكثر نضجًا. وقد أظهرت الأوركسترا قدرة استثنائية على المزج بين القوة والتعبير العاطفي، خاصة في الحركة الثانية التي حملت لحظات من التأمل والصفاء، قبل أن تنطلق الحركة الختامية بحيوية متقدة أسرت المستمعين، ليشكل كلا العملين تكاملًا فريدًا بين الاندفاع الحيوي والتأمل العاطفي. وفي حوار ثري بين البيانو والأوركسترا، قاد المايسترو الأوركسترا باحترافية وإتقان، مضفيًا على الأمسية روحًا من التناغم والتكامل الموسيقي. وتمكّن سعيد من أن يحمل صوت الأوركسترا كما لم يسمع الجمهور الأوركسترا من قبل، وذلك عبر الوصول إلى هذا الأداء المذهل من خلال التفسير التفصيلي لكل خطوط الأوركسترا، بالتنقل من آلة إلى أخرى، وتداخل هذه الآلات ببعضها البعض وكيفية تظهيرها ليتوهج صوت الأوركسترا. والجدير ذكره أنها المرة الأولى في تاريخ العالم العربي يقود موسيقيّ عربي الأوركسترا ويعزف على البيانو في الآن نفسه.
فكانت بمثابة رحلة فنية تأخذ الجمهور في عوالم بيتهوفن المختلفة، من شغفه الشاب وثورته في الكونشرتو الأول إلى تأملاته العميقة وابتكاراته في الكونشرتو الثالث، ليخرج الحاضرون بانطباع لا يُنسى عن عبقرية الموسيقار الخالد.
جسّدت الأمسية لقاءً فريدًا بين عصرين موسيقيين، حيث عانق صوت بيتهوفن الخالد رؤى القواس المعاصرة، ليؤكد الحفل أن الموسيقى، رغم اختلاف أزمنتها، تبقى لغة تتجاوز الزمن، قادرة على استحضار الماضي وإلهام المستقبل في آن واحد.
هذا ما ألمحت إليه في كلمتها المسهبة، رئيسة الكونسرفتوار حين تحدثت عن قوة الموسيقى وتأثيرها فقالت: "نحتفي بقوة الموسيقى، هذه اللغة العالمية التي توحدنا، وترفعنا، وتضيء لنا الطريق نحو المستقبل". وتابعت: "منذ أسبوع فقط، افتتحنا موسم حفلاتنا بعظمة " قداس الموتى" ووقاره لموزارت، حيث لم يكن ذلك مجرد انطلاقة لمسيرة موسيقية غنية، بل كان أيضًا لحظة تأمل عميقة تردد صداها مع التحولات التي يشهدها لبنان. واليوم، ونحن نستهل حفلنا الثاني، نفعل ذلك بروح متجددة من الأمل والطموح والنهضة الفنية. إن لبنان يقف اليوم على أعتاب فصل سياسي ووطني جديد، فجرٍ ننتظره بشغف، محملًا بوعود التجدد والتنوير. ونحن في المعهد الوطني، ندرك دورنا في تعزيز هذه النهضة، ليس فقط من خلال الأوركسترا الفلهارمونية، بل أيضًا عبر الأوركسترا الشرق - عربية، وأنسمبلات الصغار والشباب التي قمنا برعايتها، والكورال الوطني الذي سنطلقه قريبًا. هذه الجهود كلها تصب في رؤية أوسع لترسيخ الهوية الثقافية اللبنانية وتعزيز مكانتها كمركز للإبداع الفني في المنطقة وخارجها."
وأضافت القواس: "نحن محظوظون هذا المساء باستضافة عازف بيانو استثنائي بعمق فني فريد، هو كريم سعيد. موسيقي لا يقتصر إبداعه على عزف البيانو فحسب، بل يمتد ليحتضن جوهر الصوت الأوركسترالي بأكمله. وما يجعل هذه الأمسية مميزة هو أن كريم لن يكون فقط العازف المنفرد، بل سيتولى أيضًا قيادة الأوركسترا، في لحظة تحمل في طياتها الإلهام والكشف الفني العميق. برنامج هذا المساء هو تحية للطموح والتألق. سنبدأ بـ Aspiration No. 1، وهي مقطوعة من تأليفي تعكس السعي نحو السمو عبر الموسيقى. يليها الكونشرتو الأول والثالث للبيانو والأوركسترا لبيتهوفن، وهما عملان يجسدان روح الثورة والابتكار الفني. ومع تولي كريم سعيد دور العازف والقائد في آنٍ واحد، سنشهد مستوى فريدًا من الأداء الموسيقي، حيث ستتجلى أدق تفاصيل الجمل اللحنية والتعبير الموسيقي والحوار الأوركسترالي بحس موسيقي استثنائي. إن مقاربته الدقيقة للصوت، وطريقته في إضفاء الحياة على كل جملة موسيقية، وقدرته على تشكيل الأوركسترا من داخل الموسيقى ذاتها، ستجعل من هذه الليلة تجربة لا تُنسى".
وعن حضور وزير الثقافة الحفلة، قالت القواس": هذا المساء يكتسب أهمية خاصة أيضًا بحضور وزير الثقافة الجديد، الدكتور غسان سلامة، وهو شخصية مرموقة في مجالات الدبلوماسية والتعليم والتطوير الثقافي. إن رؤيته تتماشى تمامًا مع ما سعينا إليه طويلًا، تحقيق بنية تحتية موسيقية متكاملة وشاملة في لبنان. على مدار العامين الماضيين، كنت أعمل على وضع الأسس لهذا الإطار الموسيقي الشامل، خطوةً بعد أخرى. والآن، مع قائد يتمتع برؤية استراتيجية وخبرة دولية مثل الدكتور سلامة، لدينا فرصة استثنائية لجعل هذا الحلم حقيقة. إن فهمه العميق للسياسات الثقافية والتبادل الفني العالمي والتطوير الاستراتيجي سيمنح مساعينا زخمًا هائلًا، مما سيمكننا من توسيع الشراكات المؤسسية، وتعزيز برامجنا التعليمية، ووضع لبنان في موقعه الطبيعي كمركز إقليمي للتميز الموسيقي. بالإضافة إلى ذلك، فإن العهد الجديد مع رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء، نائب رئيس الوزراء، ومجلس الوزراء، هو دليل على الاعتراف المتزايد بأهمية الثقافة كمكوّن أساسي لمستقبل لبنان. ونحن، كموسيقيين، على أتم الاستعداد للمساهمة في هذه النهضة الوطنية."
وتابعت: "إلى جانب الموسيقى، تمثل هذه الليلة نقطة تحول في التزامنا بإعادة وصل لبنان بموسيقاه وأبرز مواهبه المنتشرة في جميع أنحاء العالم. فقد اختار العديد من أفضل موسيقينا البحث عن الفرص في الخارج، لكن مهمتنا اليوم هي إعادتهم، وإعادة بناء أوركستراتنا الوطنية ببريق موسيقاهم. ومنهم عودة ريبال ملّعب، الذي نفخر به، والذي انضم إلينا العام الماضي كعازف أول للفيولا. واليوم، نخطو خطوة جديدة إلى الأمام بترحيبنا بعازف الكمان إيهاب جمال، الذي ينضم إلينا للمرة الأولى كقائد لمجموعة الكمان الأولى. هذه مجرد بداية لمشاركته المستمرة مع الأوركسترا، فيما نواصل إعادة دمج موسيقيينا اللبنانيين وإعادة بناء الجسور بينهم وبين وطنهم. وكريم سعيد، من بين هؤلاء الموسيقيين الذين يجسدون هذه المهمة. فبالرغم من شهرته الواسعة في بريطانيا والأردن، يحمل كريم أيضًا الجنسية اللبنانية، ما يجعل هذه الليلة أكثر من مجرد حفلة موسيقية، بل إنها عودة للوطن بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وبكل فخر، أعلن الليلة عن شراكة استثنائية: كريم سعيد سيشغل منصب موسيقي مقيم في معهدنا الموسيقي وأوركسترانا. ومن خلال هذا التعاون، سيواصل إلهام موسيقيينا وتوجيههم، من خلال تقديم دورات الماستر كلاس، والعزف منفرداً في حفلات، وفي أمسيات موسيقى الحجرة، وقيادة الأوركسترا في دورة كاملة لأعمال بيتهوفن للبيانو والأوركسترا، وهو إنجاز سنوثقه عبر سلسلة من التسجيلات والمنشورات. هذه الشراكة تمثل عهدًا جديدًا من التميز للمشهد الموسيقي اللبناني، حيث نرتقي إلى المسرح العالمي ليس فقط كعازفين، بل كمبدعين لإرث فني خالد".
وختمت القواس: "وهكذا، ونحن نمضي قدمًا في هذه الليلة، دعونا نحتفي بقوة الموسيقى، هذه اللغة العالمية التي توحدنا، وترفعنا، وتضيء لنا الطريق نحو المستقبل. فلتكن هذه الحفلة رمزًا للنور الذي نسير نحوه، وليكن جمهورنا العزيز شاهدًا على الجمال الذي نحن على وشك الاستماع إليه.استمتعوا بالموسيقى، ولنجعل من هذه الليلة بداية سيمفونية جديدة للبنان".
وفي تلبية لدعوة القواس لإلقاء كلمة، توجه وزير الثقافة د. غسان سلامة إلى الحضور قائلاً: "الموسيقى لغة لا تحتاج لمفردات، لذلك لن أثقل عليكم بمفرداتي. أردت فقط أن أحيّي هبة القواس وإني أتطلع للاستماع إلى تأليفها، وأحيي كريم وإيهاب وكل الموسيقيين، وأحيي عودة الحياة إلى صرح أساسي من صروح الثقافة في لبنان الكونسرفتوار الموجود في نحو عشرين موقعاً مختلفاً على طول الأراضي اللبنانية، وهو ما أن يصاب بكبوة إلا ويستعيد عافيته فوراً بعد تلك الكبوة. أحييكم جميعاً وأشكركم على حضوركم في هذه اللحظة الجميلة التي تعود فيها الحياة إلى الأوركسترا وإلى لبنان بأسره".